Friday 21 December 2012

فماذا لو كان اليوم حقا هو نهاية هذا العالم؟


لسنوات وعقود أمن الكثيرون في أرجاء الدنيا، بناءا على قراءة شهيرة فيما تركته لنا حضارة المايا، أن اليوم ٢١ ديسمبر ٢٠١٢ هو نهاية هذا العالم الذي نعرفه. وبينما أنه البعض مؤخرا قد أعادوا ترجمة ما نُقل عن المايا ليقولوا أن ما قصدوه هو نهاية هذه المرحلة من حياة العالم والإنسانية وبداية مرحلة أكثر إيجابية، إلا أن فكرة أنه يوم زوال العالم لا تزال تداعب خيال البعض. فماذا لو كان اليوم هو فعلا أخر يوم في العالم؟ ماذا كنت سأفعل في مثل ذلك اليوم الذي ليس له مثيل؟

أولا، سأستيقظ مبكرا، مبكرا للغاية، وسأرى شروق الشمس، وسأشتم هواء الفجر البارد والمحلّى بأثار الندى. سوف أكون أول إنسان في الشارع، وسيكون خاليا لدرجة أنني سوف أستمع إلى صدى صوت خطواتي في الشارع الخاوي والساكن. ثم في بيتي مرة أخرى سوف أشرب كوبا ملتهبا في سخونته من الشاي بالنعناع، وسوف أشربه ببطئ شديد، وسأتذوق كل قطرة فيه وكأنها مشروبا مستقلا في حد ذاتها. وربما أضيف قطعة بسكويت، أو وربما سأكل سندوتشا من العيش البلدي الطازج (إذا كان المخبز يعمل في مثل ذلك اليوم) والجبنة الرومي القديمة التي تم تسخينها على البوتاجاز. أعرف أن تسخين العيش على البوتاجاز مضرا بعض الشيء، ولكن هذا هو أخر يوم في العالم. بالتالي، فلا توجد أزمة إذا. ثم أتناول شيئا حلوا، ربما حلوى عربية، ربما شيكولاتة ما، ربما نوعا من الكعك، وربما بعض من كل ما سبق. حسنا. سوف أكل بعضا من كل ما سبق بالفعل. ولما لا؟

ثم سأعود إلى الشارع، وسأسحب كل ما يمكن أن أسحبه من حسابي البنكي المُحرِج والمؤلم، وسأملأ سيارتي بالوقود، وسأملاء صفيحة ما ببعض الوقود إحتياطيا. ثم سأقود في شوارع القاهرة قبل أن تمتلئ، فأراها مرة أخيرة دون إزدحام، دون عراك، دون ضوضاء، دون أن أرى الفقر ينهش أجساد البشر ممن يجلسون على الرصيف أو يطوفون الشوارع طامعين في لقمة عيش يعطف أحدهم بها عليهم، ودون سياسة. سيكون الشارع ساكنا حتى أنني سأسمع صوت إطارات السيارة وهي تفتت أثناء سيرها الأحجار الدقيقة المتناثرة على الأسفلت.

ثم يستيقظ الناس، وسأذهب بحثا عن هاتفي، وسأتأكد أنه مشحونا، وسأشتري بطارية أخرى وسأشحنها، وسأشرب حينها كوبا أخرا من الشاي...

وسأبدأ في الإتصال بكل من أخطأت بحقه، وسأعتذر له، ولن أغلق الإتصال حتى أشعر أنني فعلت كل ما بوسع لإقناعه بمسامحتي. ثم سأتصل بكل من أخطأ في حقي أنا ولا زلت أجد في نفسي قدرة على مكالمته، وسوف أخبره أنني أصفح عنه، وأمزح مزحة ما معه حتى يشعر أن كل شيء على ما يرام. وعلى الأرجح، فأنني سوف أكرر المزحة ذاتها مع كل الأشخاص الذي سأتصل بهم بدلا من التفكير في أكثر من مزحة، ولن يهم ذلك في شيء حيث أنه اليوم الأخير في العالم على أي حال. وربما أتصل لكي أصب غضبي الذي كتمته طويلا تجاه البعض، وربما أتحكم في ذاتي وأدع من إستحق غضبي لحاله في مثل ذلك اليوم. بالإضافة، فأنني سأتصل بكل من علمني شيئا جعل مني إنسان أفضل، سواء أن كان مدرسا أو إنسانا عاديا تقطاطع طريقي مع طريقه، وسأقول له أنه جعلني كذلك بالفعل من وجهة نظري: إنسان أفضل. كما سأتصل بأقاربي لأقول لهم أنني غني الحظ أن الله وهبني إياهم. وأخيرا، سأتصل بأقرب أصدقائي الذين ممن يمكنني أن أراهم في ذلك اليوم، وسأقول لهم كم يعنون لي حقا. فهم إختاروني وكانوا لي كالأهل، بينما ليس دمهم من دمي، وليس إسم عائلتهم من إسم عائلتي.

سوف ألبس أكثر ما أُعِز من ملابسي في هذا اليوم،  ثم سأُخرج كل ما لدي وتبقى من رداء، وسأعطيه لمن لم يلبسون مثله في حياتهم قط. وسوف أنظر في كل مقتنياتي وأعطي كل ما لن أحتاجه منها في ذلك اليوم لمن يمكنه أن يسعد ولو قليلا بها في ذلك اليوم. سوف أعطي كاميرتي المنهكة لصديق، ودراجتي الأكثر إنهاكا لطفل، ولكنني لن أعطي كتبي لأحد. أريد أن تكون كتبي معي، حتى في ذلك اليوم. وسوف أقرأ للمرة الأخيرة بعضا من جبران، وسيبتسم قلبي كما يبتسم وجهي لقراءة كلماته. فهناك شيئا لا يمكن أن أصفه في أن تقرأ الكلمات التي تعرفها مسبقا، فتذوب فيها وتفهمها وتُحدث روحك بما لا يمكنها أن تفعل لو كانت تلك هي أول مرة تقرأها فيها.

سأذهب إلى متجر ممن يبيعون العطور الأجنبية، ومتجر للعطور الشعبية، وسأشتم كل الروائح التي يمكن لأنفي أن تختبرها، حتى تفقد أنفي قدرها على إشتمام أي شيئ بعد حوالي ربع ساعة في كل من المحلين. ومنهما سأذهب إلى مطعم صغير ولكنك يمكنك أن ترى النيل (نعم، أعتذر عن الكليشيه) أو مشهدا رائعا منه، وسأكل القليل من كل شيء في القائمة، وربما أعقد إتفاقا مع يوجد غيري بالمطعم على أن نقتسم كل ما هو في القائمة. أريد أن أتذوق البعض من كل شيء. وسأكل التشيزكيك بكميات مرعبة، ولن يوقفني شيئآ سوى قدراتي الشخصية.

ثم، سأكتب. سأقول رأيي في كل شيء، عن الدنيا والإنسانية والسياسة وكرة القدم، دون تنميق، دون إكتراث، دون محاولة لإرضاء أحد، ودون محاولة لعدم إغضاب أحد. سأقول ما أعتقد أنني أعرفه، ثم سأنشره على مدونتي أو موقعا ما إن كان الإنترنت لا يزال يعمل ذلك اليوم. وعلى الأرجح، فلن يعلق أحدا مهما كان ما سأقوله مفزعا أو غريبا أيا كان، فلن أكون الوحيد الذي سيكتب شيئا مثل ذلك، ولن يهم الغير أغلب ما سأكتبه في مثل ذلك اليوم على أي حال. ولكنني سأشعر أنني صرت أكثر حرية، وذلك كل ما يهم.

ثم، سأقفز بالباراشوت، إن كان ذلك سانحا. نعم، الباراشوت. وسأختبر شعور الطيران في حياتي، وسأثير فزع طائرا ما أثناء طيراني عندما يجدني في مكان ليس من المفترض أن أكون به، ولن أخاف كثيرا مما أي عطب يمكنه نظريا أن يصيب الباراشوت.

ثم، سأفتعل عذرا لأراها...

ولابد من أن يكون عذرا ضخما حتى تقتنع هي أن تترك مخططها لأخر يوم في العالم ولو قليلا. وعندما أراها، فسوف أتناول يدها لكي أصافحها، وسأطيل في مصافحتها، حتى تسرق أناملي قطرات من عطرها ضلت طريقها إلى راحة يدها. سأصارع نفسي حول إذا ما كنت سأبوح لها عما أشعر به أم إذا كنت سأظل صامت الكلمة وناطق الوجه، ولا أعرف ما سيكون نتيجة ذلك الصراع. وسأنظر جيدا إلى وجهها بينما أنا أتحدث في لا شيء ذو قيمة وبكل بطئ ممكن، وسوف أحفر صورتها في ذاكرتي مرة أخرى، كل نقطة في وجهها الذي أحفظه بالفعل، كل شعرة من شعرات رأسها. وبالقليل الكثير القليل مما أعطتني إياه في تلك اللحظات التي كانت من نصيبي، سوف أتركها تذهب، بينما هي تظل بداخلي ولا تفارقني أبدا، مهما حاولت.

ثم سأذهب إلى ذلك المقهى الذي أذهب إليه تقريبا كل يوم، وسأحاول أن أجمع هناك أقرب الناس إلي من أصدقائي، وسنمزح مزاحا به بعض التوتر، ولكننا سنكون سعداء أننا رأينا بعضنا البعض في هذا اليوم، وأننا كنا معا اليوم كما كنا معا في كل يوم، كما كنا سنظل معا لو كان للدنيا بقية.

ثم، سأعود إلى منزلي، وسأقبل بعيناي كل ركن فيه، كل خدش في حائط كان بسبب لحظة لم أنساها أبدا أو نسيتها قليلا فتذكرتها اليوم، كل ذرة تراب كانت بعيدة فلم أستطع تنظيفها أبدا، كل كوب به شرخ صغير ولكنه إستمر يسقي ويسقي بمعجزة ما دون أن يتشقق على مدار سنوات، وذلك التلفاز المهول القديم الذي لا يزال يعمل بعد أن إشتريناه منذ قرون، وتلك البطانية التي تمثل أقدم ذكرى يمكن لعقلي أن يستحضرها ولازلت أتدثر بها، وبها رائحة لا أعرف سوى أنها رائحة الطمأنينة. ثم سأذهب إلى عودي وجيتاري وأقوم بضبطها ولعب ما يمككني أن ألعبه عليهما، ثم إلى البيانو الذي لم أجد الفرصة لكي أتعلمه بالقدر الذي أردته وسأفعل به كل ما أستطيع أن أفعله. ثم، أستمع إلى الموسيقى. سأستمع إلى فيروز وعبد الوهاب وباخ وباكو دي لوسيا ومطربا مصريا أخجل من القول أنني أستمع أحيانا إليه، وسأقوم بخفض الصوت قليلا قبل أن أستمع إلىه حتى لا يسمع ذلك من معي بالمنزل. الشجاعة لها حدود.

ثم، سأخرج لأجلس وسط أهلي، وسنأكل شيئا دافئا، وسنشاهد شيئا لسمير غانم، وسنضحك، وسيمكنني أن أجلس بينهم لسنوات وسنوات، وسأحمد الله أنني بينهم، وسأحمد الله على كل ما وهبني إياه.


No comments:

Post a Comment